القط الاسود للكاتب المغربي عبد الجبار خمران
هكذا أمرني القط . أجل، وجه إلي كلماته الثلاث بحزم وكأنه معلم عربية فصيح. لماذا لم يرطن لسانه بواحدة من لغة قومه، لغة موليير أو شكسبير مثلا. اجلس واسكت وتعلم. عربية فصيحة، لغة قومي بعينين جاحظتين. هل يعرف هذا العفريت "الجاحظ"، ربما قرأ كتاب "الحيوان". يبدو أنني أفرطت في الشرب.
لم يكن يعلم أن الغربة قاسية هكذا، فقد كبَدهُ البرد ومزق الحنين أشرعة روحه التائهة في بحر من العزلة. أما الحب الذي تغدقه "كريستيل" على هذا القط فأحجية عليه حلها.
- هل كلمني فعلا؟
كلما جلستُ لمشاهدة التلفاز يجلس قطها الأسود كلطخة سوداء منتصبا قبالتي، ينظر إلي وكأنه يلاعب بعينيه كرة من خيوط أفكارٍ في رأسي، ربما يسأل نفسه كيف الخلاصُ مني، مثلما أفكر أنا في خلاصي منه. لكن ماذا لو كانت متزوجة به أيضا، و يرى فيها قطة روحه .. ها قد بدأت تُخرف.. ليتني كنت أعرف كيف يُصرع الجان .. عندما أكثر من الشرب يخسر ذهني كل غزواته ضد الشعوذة والتخاريف .. لِما أحسها إذا تفضله علي، أ لأنه من أهل المكان، و أنا لست إلا مهاجرا مهيض الجناح، قادما من وراء البحر..خرف..خرف.. يوما ما سأضع حدا لحياة العفريت الذي يسكن قط النحس هذا. أعرف أنه كان يرسم الأنْسَ على جدران تسيج وحدتها بهذا المنزل العتيق. ولكن لماذا اختارته أسود اللون.
- وَاشْ ما تتْخافش من المشَاشْ كْحْلينْ..بازْ لهاذ النصارى.
على كل حال، زواجنا أعدم الضرورة التي أباحت حضوره، فلا مبرر لوجوده الآن..هذه هي الفتوى.
موقفه من القطط السوداء أخذه عن جدته لأبيه، "المستشارة الكبرى" للعائلة في أمور كهذه : إنها ليست شعوذة، القط الأسود بالذات مَلِكُ المكان الذي يقطنه، كلما رأيتَ قطا أسودا فلا تتردد في قولها، مْشْ كْحلْ تْم يْوْحلْ.
آه يا جدتي، قط فرنسا الأسود هذا مختلف. يتكلم لغتنا، يعرف الجاحظ و يدرسني البيان. تعتني به زوجتي "كريستيل" مثلي تماما، و أكثر. تأخذه للبيطري بانتظام، وتغسله بشامبو وملين "اثنين في واحد".
- لكن لا عليك، لن يشاركني حبها.. لن يأمرني بعد.
هدوء تام..لا شيء ولا كلام..لا كتاب حيوان، ولا حيوان.. فقط ، لطخة سوداء على الأرض وأخرى حمراء وعينين مغمضتين. ثم صرخةٌ صرخة "كريستيل" المدوية مزقت الصمت الثقيل و رددت صداها جدران العمائر المجاورة.
تفكر لو أنه دفن الجثة قبل أن تباغته زوجته، أو كبها في قمامة بعيدة، لساعده ذلك على أن يقنعها بأن القط خرج ولم يعد. شأنه شأن القطط التي تموء بتشردها مفضلة الأكل من خشاش الأرض على العيش ببيوت بني البشر. لكن الجثة وهي مسجاة على الأرض قرب بقعة دم حمراء دليل إدانة.
محاولاته لتهدئة "كريستيل" باءت بفشل ذريع. بكاؤها بصوت عالٍ ومشاداتهما الكلامية، أوصلت العراك إلى نقطة اللاعودة : صفعات على وجه الزوجة الفرنسية، التي أطلت من النافذة، بوجه تغمره الدموع وشعر منفوش، لتستغيث على زوجها.
لم يتعجب من أن تطلقه "كريستيل" بعد الحادث، لمجرد تخلصه من أنفاس النحس الأسود وصفعه لها، بقدر ما تعجب من أن قطة جارتهم هي التي استدعت الشرطة ساعتها للقبض عليه.