واحة التواصل والإبداع
واحة التواصل والإبداع
واحة التواصل والإبداع
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتديا ت واحة التواصل والإبداع
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 مستويات النظم عند الجرجاني

اذهب الى الأسفل 
3 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
الرقبي رضوان
عضو جديد
الرقبي رضوان


عدد المساهمات : 26
نقاط : 68
تاريخ التسجيل : 30/01/2011

مستويات النظم عند الجرجاني Empty
مُساهمةموضوع: مستويات النظم عند الجرجاني   مستويات النظم عند الجرجاني Icon_minitimeالأحد فبراير 06, 2011 11:26 am

Iمستويات النظم ومراتبه عند الجرجاني:

رضوان الرقبي
باحث في البلاغة والتداوليات
-1 مفهوم النظم:
النظم التأليف، نظمه ينظمه نظما ونظاما، نظمه فانتظم وتنظم، ونظمت اللؤلؤ، أي جمعته في السلك، والتنظيم مثله ومنه، نظمت الشعر ونظمته، وكل شيء قرنته بأخر أو ضممت بعضه إلى بعض فقد نظمته... والنظم ما نظمته من لؤلؤ وخرز وغيرهما واحداته نظمه .
ويقال: نظمت الدر ودر منظوم ومنظم، وقد انتظم وتناظم وله نظم منه، ونظام ونظم، ومن المجاز: نظم الكلام: هذا نظم حسن، وانتظم كلامه وأمره وليس لأمره نظام إذا لم تستقم طريقته .
ونظم الأشياء نظما: ألفها وضم بعضها إلى بعض، نظم اللؤلؤ ونحوه، جعله في سلك ونحوه، وانتظم الشيء: تالف واتسق يقال نظمه فانتظم، ونظم الأشياء جميعها وضم بعضها إلى بعض، وتناضمت الأشياء تضامت وتلاصقت، ويقال: نظم القران أي عبارته التي تشتمل عليها المصاحف صيغة ولغة .
تلك أهم المعاني التي وردت في معاجم اللغة عن مادة نظم، وهي تدور حول معنى الاتساق والترتيب والائتلاف والتناسب بين الأجزاء. وإذا كان " نظم حبات اللؤلؤ في الخيط يستوجب التأني في إحكام الصنعة ليبدو العقد سليما في مظهره، فكذلك نظم الكلام يتطلب دقة الإحكام، ووضع كل لفظة بجانب أختها، صنيع ناظم اللؤلؤ وحائك الخيوط" .
أما عن معنى النظم في الاصطلاح البلاغي والنقدي، فله معان متعددة منها ما يتفق مع المعنى اللغوي، وبعضها يرمي إلى معنى أخر، فعند الجاحظ ترد كلمة نظم مرادفة للتأليف والبيان والإنشاء... وعند ابن قتيبة بمعنى السبك، أما العسكري فيرى أن النظم في حسن التأليف وجودة التركيب وحسن الوصف .
وعلى هذا الأساس فالمعنى المشترك بين اللغة والاصطلاح، وهو ضم الشيء إلى الشيء وتنسيقه على نسق واحد، وهو أصل المعنى الذي ذهب إليه عبد القاهر الجرجاني.
إن الحديث عن النظم عند الجرجاني حديث عن الإعجاز، وهو في الآن ذاته حديث عن الشعرية أو الأدبية، وهي ما يجعل من كلام ما عملا أدبيا، والفرق بينهما في الدرجة، حيث النظم في الإعجاز يمثل النظم المتعذر، بينما النظم في الكلام البشري يمثل النظم المقدور عليه لما فيه من تفاوت .
وردت لفظة النظم ومشتقاتها عند عبد القاهر الجرجاني 279 مرة موزعة على الشكل التالي:
اسم الكتاب عدد الاستعمالات
أسرار البلاغة 26
دلائل الإعجاز 184
الرسالة الشافية 69
وعلى هذا الأساس سنحاول في هذا العمل تبيان أهم المستويات التي تحدث عنها عبد القاهر الجرجاني في نظريته النظمية، و مبينينا كذلك مراتب هذا النظم.
1-1 مستويات النظم عند عبد القاهر الجرجاني:
جاء عبد القاهر الجرجاني إلى حقل الدراسات البلاغية القديمة، ومعه كل المقومات التي جعلت منه إمام البلاغيين بدون منازع، فقد أحسن تلقي ما كتب في قضية الإعجاز، فاخذ منه ما رآه متفقا مع أصول نظريته، وأضاف إليه الكثير، ولذلك نجده قد تناول قضية النظم في إطار ثلاث مستويات أساسية هي:
1ـ المستوى النفسي:
يظهر هذا المستوى عندما يفرق عبد القاهر بين الحروف المنظومة والكلم المنظوم، فيقول:" نظم الحروف هو تواليها في النطق، وليس نظمها بمقتضى عن المعنى، ولا الناظم لها بمقتف في ذلك رسما من العقل اقتضى أن يتحرى في نظمه لها ما تحراه.... وأما نظم الكلم فليس الأمر فيه كذلك، لأنك تقتفي في نظمها أثار المعاني، وترتبها على حسب ترتب المعاني في النفس" .
وقد عبر الجرجاني عن هذا المستوى النفسي بجملة من المفاهيم منها: النفس والفكر والعقل... وعلاقة المعنى بتلك المفاهيم من حيث الترتيب والتلبس والاقتضاء، يفضي إلى اعتبار المعاني صورا ذهنية محفوظة عن العالم الذي يحيط بنا، وهي توجد في ذهن الإنسان باعتبارها مادة خام؛ إذا ما نُظر إليها قبل أن تتصل بقواعد النحو وقيود التعليق، فهي من جملة النظام اللغوي الذي يكتسبه الأفراد من خلال احتكاكهم ـ منذ خلقوا ـ مع العلم الخارجي، وهذا المعنى النفسي لا لفظ له، لأنه يمثل مرحلة ما قبل التلفظ، فطبيعة المرحلة اقتضت ألا يكون له مقابل لفظي .
وإذا كان الجرجاني قد أكد على أن الألفاظ تترتب على حسب ترتب المعاني في النفس، فلأنه كان مدفوعا بنزعة أشعرية التي تعتبر الكلام نفسيا، عكس نزعة المعتزلة التي اعتبرته ماديا، ولذلك نفى الجرجاني أن تحمل الألفاظ معنى قبل أن تجيش المعاني في النفس، لأن المعاني عنده هي أول ما يعترض النفس، ثم بعد ذلك تتدفق الكلمات على اللسان، " فإذا وجب لمعنى أن يكون أولا في النفس وجب للفظ الدال عليه أن يكون مثله أولا في النطق، فأما أن تتصور في الألفاظ أن تكون مقصودة قبل المعاني بالنظم والترتيب، وأن يكون الفكر في النظم الذي يتواصفه البلغاء فكرا في نظم الألفاظ....فباطل من الظن ووهم يتخيل" .
فالمعنى يتولد في النفس مع ألفاظه الدالة عليه، وينشأ كل ذلك في النفس دفعة واحدة لأنه " لا يتصور أن تعرف للفظ موضعا من غير أن تعرف معناه، ولا أن تتوخى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيبا ونظما، وأنك تتوخى في الترتيب في المعاني وتعمل الفكرة هناك، فإذا تم لك ذلك اتبعتها الألفاظ وقفوت بها أثارها، وأنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتج إلى أن تستأنف فكرا في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني وتابعة لها ولاحقة بها" .
وإذا تتبعنا كلام عبد القاهر الجرجاني وجدناه يعتبر اللفظ مجرد وعاء يوضع فيه كنز ثمين، ألا وهو المعنى فينساب اللفظ على اللسان تبعا له، ولا يمكن لهذا اللفظ أن يؤدي أية خدمة للمعنى إن كان منفردا، إلا إذا كان مُرتبا ومُعلقا بعضه ببعض.
كما تحدث الجرجاني عن الآثار النفسية التي يحدثها حسن النظم في المتلقي، إذ اعتبر حسن التأليف والسبك ووضع الألفاظ مواضعها، هي التي تجعل متلقي النص يشعر باهتزاز نفسي وأريحية، قائلا:" وإذا قد عرفت ذلك، فاعمد إلى ما تواصفوه بالحسن وتشاهدوا له بالفضل، ثم جعلوه كذلك من اجل النظم خصوصا دون غيره مما يستحسن له الشعر أو غير الشعر، من معنى لطيف... وتأمله فإذا رايتك قد ارتحت واهتززت واستحسنت، فانظر إلى حركات الأريحية مم كانت؟... فانك ترى عيانا أن الذي قلت لك كما قلت" .
إذ ليس القصد من النظم عند الجرجاني، أن ترص الكلمات رصا وتراد على مكانها إرادة لا يقتضيه المقام، ولا تدعو إليه وجوه الحسن والاعتبار، وإنما تتلاقى الكلمات في النطق مترسمة خطى المعاني القائمة في النفس، والتي يريد أداءها إلى غيره لقصد يتحراه وغاية يهدف إليها.
وهنا يقرر عبد القاهر "أن الألفاظ أوعية للمعاني، وان المعاني المصبوبة في هذه الأوعية لا بد أن تختار لها الألفاظ المتكافئة وإياها، فلا يصب المعنى الكبير في وعاء ضيق، وكذلك المعنى الضئيل لا يصب في وعاء واسع، ومعنى هذا أن الرجل يدعو إلى أن تكون الألفاظ على قدود المعاني وملابسة لها أتم ملابسة، حتى لا تعافها النفس ويتأبى عليها الذوق وينفر منها الإحساس" .
2 ـ المستوى النحوي:
تحدث الجرجاني عن النظم باعتباره تعليقا للكلم بعضها ببعض قائلا: "معلوم أن ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب بعض." وحديثه عن هذا التعليق هو حديث عن العلاقات التي تربط أجزاء الكلام بعضه ببعض، " فلا نظم في الكلم ولا ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض ويبني بعضها ببعض ... وإذا كان كذلك، فبنا أن ننظر إلى التلعيق فيها والبناء... ما معناه وما محصوله؟.... لا محصول لها غير أن تعمد إلى اسم فتجعله فاعلا لفعل أو مفعولا، أو تعمد إلى اسمين فتجعل احدهما خبرا عن الأخر" .
فدراسة العلاقات بين الكلمات في التركيب، وفهم دلالاتها في أوضاعها المختلفة، هي الدراسة الموضوعية حقا، هي التي تعين على فهم النص وتذوق ما فيه من جمال، وبذلك تربى الذوق الأدبي، وتطبعه على اليقظة ونفاذ البصيرة .
ولذلك فالجرجاني يقرر أن سلامة الأساليب وصحتها رهينة بمطابقتها لقواعد النحو العربي، قائلا:" اعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك، فلا تخل بشيء منها" .
وحسن توظيف النحو، والوقوف عند فروقه هو الذي جعل الجرجاني يحكم للبحتري بالجودة والمزية في أشعاره، لأنه التزم بمبادئ معني النحو، من تقديم وتأخير وحذف وإضمار.... ووظفها توظيفا جماليا، أكسبت شعره رونقا يجعل النفس تهتز إليه اهتزازا، ففي تحليله لأبيات البحتري التالية:
بَلَونَا ضَرائِبَ مَنْ قَدْ نَـــرى فَمَا إنْ رَأَينَا لِفَتْــــحٍ ضَرِيبَا
هُو المَرءُ أبْدَتْ لَهُ الـــحَادِثَا تُ عَزْمَاً وَشِيكَاً وَرأيَا صَلِــيبَا
تـَنَقَّلَ فِي خُلُـــقَي سُــؤدَدٍ سَمَاحَاً مُرجَّى وَبأسَـــا مَهِيبَا
فَالكَسَّيفِ إنْ جِئتَهُ صـــَارِخًا وَكَالبَحْرِ إنْ جِئتَهُ مُسْـتـَــثِيبَا
يقول الجرجاني مبينا أن سبب انس النفس بهذه الأبيات، راجع إلى التزام البحتري بقواعد النحو ومعانيه: " فإذا رايتها قد راقتك وكثرت عندك، ووجدت لها اهتزازا في نفسك، فعد فانظر في السبب واستقص في النظر، فانك تعلم ضرورة أن ليس إلا انه قدم وأخر وعرف ونكر وحذف واضمر وأعاد وكرر، وتوخى على الجملة وجها من الوجوه التي يقتضيها علم النحو، فأصاب في ذلك كله، ثم لطف مواضع صوابه، واتى بما يوجب الفضيلة" .
وتأسيسا على ما سبق يتبين أن معاني النحو عند الجرجاني على درجتين:
ـ درجة تجري فيها معاني النحو في حدود الصحة المعروفة عند علماء النحو بالمعنى الشائع عندهم.
ـ درجة تجري فيها هذه المعاني في ميدان التخير، وهو ما يمكن تسميته بالنحو البلاغي الذي به قال عبد القاهر، والذي عرضته نظريته في النظم .
وهكذا فالدرجة الأولى تمثل الجانب التواصلي الذي يستدعي من المتكلم الاستعانة بقواعد النحو، لكي يكون سليما، أما الدرجة الثانية فهي تمثل الجانب الفني الذي يسمو بالكلام إلى درجة تهتز لها النفوس وترتاح، وهذه الدرجة هي مناط اهتمام عبد القاهر، فقد اعتبر احمد عامر بحث الجرجاني في معاني النحو أو النحو البلاغي بحثا جديدا، فكان " أول عالم اخرج النحو من نطاق شكليته وجفافه، وسما به فوق الخلافات والتحملات حول الإعراب والبناء، وبعث فيه دفء اللذة الشعورية والعقلية معا، وأخضعه لفكرة النظم، واخضع فكرة النظم إليه" .
وبهذا لم تعد قواعد النحو مقصورة على الإعراب، متسمة بالجفاف كما عهدناها في كتب النحو الخالصة، وإنما صارت على يديه وسيلة من وسائل التصوير، ومظهرا من مظاهر البراعة ومقياسا يهتدي به إلى الجودة .
فثقافة عبد القاهر النحوية وإمامته لهذا العلم كانت من الروافد التي أمدته بفكرة النظم، إذ أن دائرة البحث النحوي في مصادرها الأولى التي اطلع عليها لم تكن تقف عند حدود النظر في أواخر الكلمات، وإنما تناولت في كثير من الأحيان النظر في الأسلوب من حيث صحته وفساده ومطابقته لغرض المتكلم، وقد ساعد ذلك عبد القاهر في الجانب النظري حين جعل النظم عبارة عن توخي معاني النحو فيما بين الكلم .
فالمنهج الذي اتخذه في دراسته للنظم خاصة وللبلاغة عامة، هو المنهج اللغوي القائم على الاستفادة من النحو في التحليل، وقد أشار المعاصرون إلى هذا المنهج واعتبروه من أنجع المناهج في التحليل البلاغي. يقول محمد زكي العشماوي:"وهذا المنهج الذي يفسر القيمة في الأدب بما يكون بين اللغة من علاقات، هو المنهج الذي تلتقي فيه فلسفة اللغة بفلسفة الفن... ودعوة عبد القاهر إلى التزام المنهج اللغوي في دراسة الأدب ونقده تلتقي مع وجهة النظر الحديثة" .
ولهذا نقل الجرجاني النحو إلى جو يزخر بالحيوية، وجعل موضوعاته ميدانا يجول فيها ذهنه الوقاد وقلمه البليغ، ويطلع الناس على ألوان من التعبير مرت بهم ولكنهم لم يتذوقوها ولم يقفوا على روعتها وجمالها حتى جاء، فإذا التقديم والتأخير والذكر والحذف والفصل والوصل... مادته التي أعاد تشكيلها وأضفى عليها من روحه ما لا نجده عند السابقين .
وعلى العموم فمنهج عبد القاهر، هو منهج النحو الذي لا يقف عند حدود الحكم بالصحة والفساد، بل يمتد إلى البحث في العلاقات التي تقيمها اللغة بين الكلمات، والى اجتلاء معانيها، وكشف غامضها. وبذلك اتسع أفق النحو وغنيت مادته، ودخل فيه كل ما يراعى في النظم من تقديم وتأخير وذكر وحذف وإضمار وما إلى ذلك من أسباب الجودة، مما استقر عليه العرف فيما بعد بما يسمى علم المعاني، ومن ثم فإن الأساس عند الجرجاني هو النحو، على أن يشمل النحو المعاني، وان يتجاوز القواعد النحوية إلى الجودة الفنية، أي إلى الشعرية أو الأدبية.
3 - المستوى التداولي:
هذا المستوى هو موضوع الدراسة، وهو مناط النظم عند الجرجاني بالإضافة إلى معاني النحو، ذلك أن الكلمة عنده لا تكتسب قيمتها إلا إذا وضعت في سياقها، وفي علاقتها بالألفاظ التي تليها، ولذلك تحدث الجرجاني عن المقاصد والمقامات، وبان اللفظة لا معنى لها ولا قيمة لها إلا إذا ارتبطت مع جاراتها في علاقات مقامية قائلا:" ...وإذا كان هذا كذلك، فينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف، وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخبارا وأمرا ونهيا واستخبارا وتعجبا، وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضم كلمة إلى كلمة، وبناء لفظة على لفظة" .
فالجرجاني بهذا يعطي تصورا جديدا للبلاغة العربية التي احتل فيها المقام مكانة مهمة، لان شأن المقامات والأغراض والمواقع في الكلام، شأن له ارتباط وثيق بالنفس وطبائعها، ولذلك فهو يقرر أن" الشعرية لا تعود إلى ألفاظ اللغة مقطوعة منفصلة، وإنما تعود إلى النظم المتمثل في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها في سياق معين يسوده التناسق والانتظام في الدلالة" .
وهكذا يقرر الجرجاني أن ربط المعاني النحوية بمقامات الكلام ومقاصد المتكلمين، هو جوهر العلم الذي إليه ترجع جودة الكلام، والحديث عن مقاصد المتكلمين" هو النصف الأول في كلام عبد القاهر... لان علم المعاني تخلَّق بين يدي عبد القاهر بحركة قريبة وبضربة بالغة الذكاء والنفاذ والإصابة والتوفيق، هي انه جاء على معاني النحو.... وأدراها على مقاصد المتكلمين، ونظر في مدى إصابة معاني النحو لهذه الأغراض والمقاصد، ورأى أن في هذه العلاقة يكمن علم شريف هو علم بلاغة الكلام وإعجاز القران، وان حظ الكلام من الجودة إنما هو بمقدار حظه من هذه المواءمة بين معاني النحو و مقاصد المتكلمين" .
يقول الجرجاني:" وإذ قد عرفت أن مدار أمر النظم على معاني النحو، وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه، فأعلم أنَّ الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عِندها، ونهايةٌ لا تجد لها ازديادا بعدها، ثمَّ اعلم أن ليست المزيّة بواجبة لها في أنفسها، ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تَعْرِض بسبب المعاني والأغراض التي يُوضع لها الكلام، ثم بحسَب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض" .
وهذا ما يذكرنا بأحد المفاهيم المقدمة للتداولية على أنها تدرس المعنى في ضوء علاقته بموقف الكلام، والموقف الكلامي يشتمل على جوانب عديدة يمكن أن نجملها في:
1- المخاطَبين والمخاطِبين: وهم المتحدثون والمستمعون.2
- سياق التلفظ: للسياق عدد من التعريفات، فهو ينطوي على الجوانب الفيزيائية والاجتماعية ذات الصلة بالتلفظ، وينظر إليه في التداولية على انه المعرفة المسبقة التي يفترض أن يشترك بها المتكلم والمخاطب، وتساهم في تأويل الأخير لما يقصده الأول.
3- هدف التلفظ:
4- الفعل الانجازي: تتناول التداولية الأفعال التلفظية أو الأداء الذي يحصل في موقف معين،
وفكرة النظم عند الجرجاني هي وضع الألفاظ مواضعها، لأن الكلام وحدة شاملة يساند بعضه بعضا، فلو أزلنا لفظة من موضعها لهوى البناء، لا هذه اللفظة لا تثبت لها مزية أو خلافها إلا وهي داخلة في نظم الكلام، ومما يشهد على لذلك" انك ترى اللفظة المستعارة قد استعيرت في عدة مواضع، ثم ترى لها في بعض ذلك ملاحة لا تجدها في الباقي" .
وعلى هذا الأساس فالمعاني تتأثر بالمقامات وتنفعل بها، فتنوع المقامات يساهم في توليد معاني جديدة ومتنوعة لا حصر لها، إن على مستوى معاني الألفاظ مفردة، أو على مستوى معاني التركيب، ولذلك يقرر أن" مزية اللفظة تكمن في ملاءمة معناها لمعنى التي تليها، ولا يمكن أن يعرض لها الحسن والشرف، إلا من حيث لاقت الأولى الثانية والثالثة الرابعة... لان الألفاظ المفردة من أوضاع اللغة، لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها، ولكن لان يضم بعضها إلى بعض، فيعرف فيما بينها فوائد" .
فاللفظة لا تؤدي معنى مفيدا إلا داخل بنية لغوية، تضم فيها الكلمة إلى الكلمة وتبنى اللفظة على اللفظة، وقيمتها داخل البنية أو النظام اللغوي تحددها درجة مواءمتها واتفاقها مع جارتها وأخواتها أو تنافرها معهن. ولذلك يذهب محمد زكي العشماوي إلى أن عبد القاهر الجرجاني" منحته ثروته اللغوية وإلمامه الواسع باللغة إلمام إحساس وذوق القدرة على الوعي بما تحمله من ظلال مختلفة من المعنى بالقياس إلى السياق الذي وردت فيه، فمضمون الكلمة عنده يقل أو يكثر، ينبسط أو ينكمش بحسب علاقتها بالموكب المتحرك، الذي تسير فيه الكلمة مع ما تقدمها وما تلاها من ألفاظ" .
ويبين عبد القاهر وجه الإعجاز في القران انه راجع إلى ترابط الألفاظ وتألفها ففي تحليله لقوله تعالى: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) . يقول:" فتجلى لك منها الإعجاز، وبهرك الذي ترى وتسمع، انك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة القاهرة، إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض، وان لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة، وهكذا إلى أن تستقريها إلى أخرها، وان الفضل تناتج ما بينها وحصل من مجموعها" .
وان أردت اظهر أمرا في هذا المعنى، فانظر إلى قول إبراهيم بن العباس:
فَلَوْ إذْ نَبَا دَهْرٌ وأنْكِرَ صَاحـِبٌ وسُلِّط أعْدَاءٌ و غَابَ نَصـِيرُ
تَكُونُ عن الأهوازِ دَارِى بِنَجْوَةٍ ولكنْ مقاديرٌ جَرَتْ وأمُــورُ
وَإنِّي لأرْجُو بَعْدَ هذا مُحــَمَّدا لافْضَلِ مَا يُرْجَى أخٌ وَوَزِيـرُ
فانك ترى ما ترى من الرَّونق والطَّلاوة، ومن الحسن والحَلاوة، ثم تتفقد السبب في ذلك، فتجدُه إنّما كان من اجل تقديمه الظرفَ الذي هو "إذ نبا" على عامله الذي هو " تكون" وان لم يقل: فلو تكون عن الأهواز دارى بنجوةٍ إذ نبا دهرٌ، ثم أن قال :" تكون" ولم يقل " كان" ثم أن نكَّر الدهر ولم يقل: "فلو إذ نبا الدهر" ثم أن ساق هذا التنكير في جميع ما أتى به من بعدُ، ثم أن قال : "وأُنْكِرَ صاحبٌ" ولم يقل: وأنكرتُ صاحباً، لا ترى في البيتين الأولين شيئا غير الذي عددته لك تجعله حُسناً في النظم، وكله من معاني النحو كما ترى، وهكذا السبيلُ أبدا في كل حُسنٍ ومزيةٍ رايتهما قد نُسبا إلى النظم وفضلٍ وشرف أحيل فيهما عليه" .
والجرجاني بتفسيره النظم على نمط ما فسره به، يكون قد فتح باب الاحتمالات بشأن الوجوه والفروق التي تأتي عليها معاني النحو، إذ ليس للمعاني النحوية مزية في ذاتها، ولكن مزيتها تعرض لها بحسب المقام، وبحسب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعض، يقول الجرجاني موضحا هذا الأمر:" وإذ قد عرفت أن مدار النظم على معاني النحو، وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه، فاعلم أن الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها، ثم اعلم أن ليست المزية بواجبة لها في أنفسها، ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تَعرِض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض... بل ليس من فضل ومزية إلا بحسب الموضع، وبحسب المعنى الذي تريد والفرق الذي تؤم" .
وعموما فان الجوانب التداولية التي اهتدى إليها عبد القاهر الجرجاني، لها مدخل عظيم في نظرية النظم عنده، إذ لا شك أن للمقام دور في تشكل المعاني في نفس المتكلم وانتظامها، وما دامت الألفاظ تتألف حسب ائتلاف المعاني في النفس، فان للمقام والمقاصد أيضا دخل في انتظامها.
وهذه المستويات الثلاثة تتلاحم فيما بينها داخل نظرية النظم، وهذه المستويات هي نفسها المكون المركزي في أصل الكلام، " لأن بناء التراكيب اللغوية ونظم الكلام وتأليفه يحتاج إلى دقة في الفهم، وروية وبعد في الرؤية والبحث عن الدلالات المختلفة، وما يستتبعها من المعاني القائمة كلها على قواعد النحو" .
وانسجاما مع هذا التصور العميق الذي بناه الجرجاني، يربط محمد منذور بين نظرية النظم عنده وبين ما توصل إليه علم اللغة المعاصر قائلا:" وفي الحق أن عبد القاهر قد اهتدى في العلوم اللغوية كلها إلى مذهب لا يمكن أن يبالغ في أهميته مذهب يشهد لصاحبه بعبقرية لغوية منقطعة النظير... هو اصح واحدث ما وصل إليه علم اللغة في أوربا" .
ويتوافق تمام حسان مع ما ذهب إليه منذور في أن عبد القاهر الجرجاني يضاهي بدراسته للنظم احدث النظريات في الغرب قائلا:" ومع قطع النظر عن رأي الشخصي في قيمة البلاغة العربية بعامة، من حيث كونها من مناهج النقد الأدبي* وعن صلاحيتها أو عدم صلاحيتها في هذا المجال، أجدني مدفوعا إلى المبادرة بتأكيد أن دراسة عبد القاهر للنظم وما يتصل به، تقف بكبرياء كتفا إلى كتف مع احدث النظريات الغوية في الغرب، وتفوق معظمها في مجال فهم طرق التركيب اللغوي، هذا مع الفارق الزمني الواسع الذي كان ينبغي أن يكون ميزة للجهود المحدثة على جهد عبد القاهر" .
وبهذا التناول الدقيق لنظرية النظم موصولة الأسباب باللغة، من جهاتها المختلفة، اعتبر عبد القاهر واضع علم البلاغة والمؤسس الحقيق لها، ويظهر أن هذا الاعتبار مرده فيما نعتقد إلى أن عبد القاهر الجرجاني، كان أول من وضع نظرية متكاملة في البلاغة، أما ما سواه من السابقين عليه فلم تكن بحوثهم فيها غير جزئيات مشتتة لا يكاد يؤلف بينها نظام ولا تصل بين أجزائها وحدة بلغت من الدقة والأصالة ما بلغته عند الجرجاني.
ولعمري إن هذا التراث الزخم الذي خلفه القدامى، المليء بتصورات لغوية ونقدية وغيرها، لصالح أن يكون محط اهتمامنا ومجال دراستنا، لشق صدفه واستخراج كنوزه، من اجل بناء نظريات لغوية ونقدية في مختلف الميادين، تكون منطلقا من اجل بناء الذات، وترسيخ قدمها في ساحة العلوم والمعارف الإنسانية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
المنصوري
مراقبة عامة ومديرة الإشراف
مراقبة عامة ومديرة الإشراف
المنصوري


عدد المساهمات : 596
نقاط : 1243
تاريخ التسجيل : 29/10/2010

مستويات النظم عند الجرجاني Empty
مُساهمةموضوع: رد: مستويات النظم عند الجرجاني   مستويات النظم عند الجرجاني Icon_minitimeالأحد فبراير 06, 2011 12:20 pm

نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني استمدت وجودها من الجدال العميق الذي دار بين من جعل فضل الكلام للفظ وبين من جعل الفضل للكلام للمعنى
امام هذه الاختلافات جاء موقف الجرجاني ليجعل من اللفظ والمعنى وجهي عملة واحدة لا يجوز التفريق بين الوجهين والا ضاعت فائدة الكلام.
الاان الجرجاني لم يقتصر على هذه العلاقة بين اللفظ والمعنى كشقين متلازمين ولكنه ايضا اضاف الفضل في الكلام بالجانب النفسي,
ان اللسانيات الحديثة التي تجعل من اللفظ عبارة عن فونيمات ومورفيمات ولايمكن ان يكون اللفظ دون ازدواجية لصيقة بين فونيم ومورفيم لاتكون في الحقيقة قد جاءت بجديد لان عبد القاهر الجرجاني امتلك قصبة السبق لهذه المسالة من خلال نظرية النظم
شكرا اخي الفاضل على الموضوع القيم بحق
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
المنصوري
مراقبة عامة ومديرة الإشراف
مراقبة عامة ومديرة الإشراف
المنصوري


عدد المساهمات : 596
نقاط : 1243
تاريخ التسجيل : 29/10/2010

مستويات النظم عند الجرجاني Empty
مُساهمةموضوع: رد: مستويات النظم عند الجرجاني   مستويات النظم عند الجرجاني Icon_minitimeالأحد فبراير 06, 2011 12:26 pm

نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني
تعتبرُ نظريةُ عبدُ القاهرِ في النظمِ من أهمِ النظرياتِ البلاغيةِ و النقديةِ حتى عصرُنا الحاضر.
تحديد عبد القاهر للنظم وبيان مراده منه:
النظم لغة : التأليف . نظمه ينظمه نظمـًا, ونظمه فانتظم وتنظم , ونظم اللؤلؤ أي جمعه في السلك . ومنه نظمت الشعر , ونظم الأمر على المثل, وكل ضممت بعضه إلى بعض فقد نظمته.
وفي الاصطلاح :" تأليف الكلمات و الجمل مترتبة المعاني متناسبة الدلالات على حسب ما يقتضيه العقل ".
لقد كان مصطلح النظم شائعـًا عند الأشاعرة الذين ينتمي إليهم عبد القاهر الجرجاني , و يجعلونه مناط إعجاز القرآن . وكان الجاحظ أول من استخدم هذا الاصطلح وعلل به الإعجاز القرآني . أما الجبائي المعتزلي فقد وضع مكانه الفصاحة , وردها إلى حسن اللفظ و المعنى . وقد نفى القاضي عبد الجبار أن يكون مرجع الفصاحة إلى اللفظ أو المعنى أو الصورة البيانية , بل ردها إلى الصياغة النحوية و الأسلوب. ثم ظهر عبد القاهر مستفيدا مما ذكره سابقيه فظهرت النظرية عنده ناضجة متكاملة , وقد كان النظم عنده مناط الإعجاز القرآني كما ذكرنا آنفـًا.
يقول عبد القاهر في مقدمة كتابه دلائل الإعجاز:
إنِّي أقولُ مَقالاً لستُ أُخفـيه *** ولستُ أرهَبُ خصْمـًا إنْ بَدا فيهِ
ما مِنْ سبيلٍ إلى إثباتِ معجزةٍ ** في النَّظْـمِ إلا بما أصبحْتُ أبديهِ
فما لنَظْمِ كـلامٍ أنتَ ناظمـهُ *** مَعْنـًى سوى حُكْمِ إعرابٍ تُزجِّيهِ


إلى أن يقول :

وقد عَلِمْنا بأنَّ النَّظْمَ ليسَ سِوى ** حُكمٍ منَ النَّحْـو نَمضي في تَوَخِّيهِ
لو نقَّبَ الأرضَ باغٍ غيرَ ذاكَ له *** مَعنًى , وصعَّـدَ يعلـو في تَرقِّيـهِ
ما عادَ إلا بخُسْـرٍ في تَطَلُّبـهِ *** لا رَأى غيـرَ غِـيٍّ في تبغِّيـهِ


فالنظم كما عرفه : ليس " إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو , وتعمل على قوانينه و أصوله , وتعرف مناهجه التي نهجت , فلا تزيغ عنها , وتحفظ الرسوم التي رسمت لك , فلا تبخل بشيء منها . وذلك أنّا لا نعلم شيئـًا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه
كل بابٍ و فروقه".
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
المنصوري
مراقبة عامة ومديرة الإشراف
مراقبة عامة ومديرة الإشراف
المنصوري


عدد المساهمات : 596
نقاط : 1243
تاريخ التسجيل : 29/10/2010

مستويات النظم عند الجرجاني Empty
مُساهمةموضوع: رد: مستويات النظم عند الجرجاني   مستويات النظم عند الجرجاني Icon_minitimeالأحد فبراير 06, 2011 12:36 pm

[color
موقف الجرجاني من قضية اللفظ و المعنى و رده على أنصارهما :


لقد شُغل النقاد بقضية اللفظ و المعنى , فتناولولها بالدراسة , و ذهبوا فيها مذاهبـًا مختلفة , منهم من أعلى من شأن اللفظ و أهمل المعنى , و منهم أعلى شأن المعنى و أهمل اللفظ , ومنهم من ذهب مذهب المتوسط بينهما .

وصلت قضية اللفظ و المعنى إلى عبد القاهر بصورة لم ترضيه . فأخذ على عاتقه تصحيح مفاهيمهم المضطربة , و يقول عن نفسه : " قد بلغنا في مداواة الناس من دائهم , وعلاج الفساد الذي عرض في آرائهم كل مبلغ , وانتهينا إلى كل غاية , وأخذنا بهم عن المجاهل التي كانوا يتعسَّفون فيها إلى السَّـنَن اللاحب , ونقلناهم عن الآجن المطروق إلى النمير الذي يشفي غليل الشارب . ولم ندع لباطلهم عرقا ينبض إلا كويناه , و لا للخلاف لسانـًا ينطق إلا أخرسناه . ولم نترك غطاءً كان على بصر ذي عقل إلا حسرناه " .

1- مكانة اللفظ عند عبد القاهر :

انزعج عبد القاهـر من تقديـر مَن سبقـهُ للألفـاظ , و تقديمهم لها على المعـاني , وجعلهـم للألفـاظ صفات و مميـزات لم يتقبلـها ذهنـه . فرأى أن الانحيـاز للفظ قتـلٌ للفِّكـر فـقرر أن "الألفـاظ لا تتفاضـل من حيث هي ألفـاظ مجردة ولا من حيث هي كلـم مفردة . وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافـها في ملائمـة معنى اللفظـة لمعـنى التي تليـها , أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ . ومما يشهـد لذلك أنك ترى كلمة تروقـك وتؤنسك في موضع , ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر" .

كما أنه جعل " الألفـاظ خدم المعاني والمتصرفـة في حكمها، و المعاني هي المالكة سياستها، المستحقـة طاعتها، فمن نصر اللفظ على المعنى كان كمن أزال الشيء عن جهته، وأحاله عن طبيعته، وذلك مظنة الاستكراه، وفيه فتح أبواب العيب، والتـعرض للشين، ولهذه الحالة كان كلام المتقدمين " .

و يؤكـد هذه الفكـرة مرة أخرى في كتابـه الآخـر فيقول :"و أنك إذا فرغتَ من ترتيبِ المعـاني في نفسِـك لم تحتـجْ إلى أن تستأنفَ فكرًا في ترتيب الألفاظ بل تجدُها تترتبُ لكَ بحُكْـمِ أنها خَـدَمٌ للمعاني , و تابعةٌ لها , ولاحقةٌ بها ".

إذًا يستحسن عبد القاهر اللفظ بشرط أن يستحق المزية والشرف , وذلك ضمن شروط في داخل التعبير ، و أهمها حسن تلاؤم معنى اللفظة مع معنى الألفاظ المجاورة لها ، و مراعاة ترتيب المعاني في النفس ثم اختيار الألفاظ الدالة عليها . يقول عبد القاهر:" فلو كانت الكلمة إذا حسنت , حسنت من حيث هي لفظ وإذا استحقت المزية والشرف واستحقت ذلك في ذاتها وعلى انفرادها دون أن يكون السبب في ذلك حال لها مع أخواتها المجاورة لها في النظم لما اختلف بها الحال ولكانت إما أن تحسن أبدا أو لا تحسن أبدا".

كما أنه لاحظ أن اللغة تقوم على العلاقة بين الألفاظ وليس على الألفاظ المجردة فقال: اعلم " أن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها ولكن لأن يُضَمّ بعضُها إلى بعض فيعرف فيما بينها فوائد " .

فليس المهم في اللغة الألفاظ مجردةً بل المهم هو الصلة بين هذه الألفاظ والتي تقوم عليها.

2 - مكانة المعنى عند عبد القاهر :

قد يُشْعر من حديثنا عن مكانة اللفظ عند عبد القاهر أنه انتصر للمعاني و أهمل الألفاظ وهذا ليس صحيحـًا لأننا نجده يقول : "اعلم أن الداء الدوي والذي أعيا أمره في هذا الباب غلط من قَدَّمَ الشعرَ بمعناه وأقلَّ الاحتفال باللفظِ , وجعلَ لا يعطيه من المزية إن هو أعطى إلا ما فَضَلَ عن المعنى . يقول ما في اللفظ لولا المعنى وهل الكلام إلا بمعناه فأنت تراه لا يقدم شعرًا حتى يكون قد أُودِع حكمةً أو أدبـًا واشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادراً. إذًا فهو ينكر أن يكون للمعنى فضل على اللفظ حتى و إن كان هذا المعنى متضمنـًا لحكمة أو أدب أو معنى نادر أو تشبية غريب فلا مزية للمعنى دون الصياغة .

ويقرر أنه "لا يكون لإحدى العبارتين مزية على الأخرى حتى يكون لها في المعنى تأثير لا يكون لصاحبتها" و"سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تعمل منها الصور والنقوش . فكما أنك ترى الرجل قد تهدى في الأصباغ التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسج إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ وفي مواقعها ومقاديرها وكيفية مزجه لها وترتيبه إياها إلى ما لم يتهد إليه صاحبه فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب وصورته أغرب كذلك حال الشاعر والشاعر في توخيهما معاني النحو ووجوهه" .

فالمعنى عنده "كل ما تولد من ارتباط الكلام بعضه ببعض , فهو الفكر و الإحساس و الصورة والصوت , وهو كل ما ينشأ عن النظم و الصياغة من خصائص و مزايا" .


3 - الجمع بين اللفظ والمعنى:

رأينا فيما سبق أن عبد القاهر أنكر أن يكون الجمال في اللفظ فقط أو في المعنى فقط. و قرر أن الجمال كامنٌ في نظمِ الكلام الذي يجمع بينها . وقد استطاع أن يثبت الوحدة بين اللفظ والمعنى مستخدمـًا أساليبه الجدلية , فأبان كثيرًا مما غمض على النقاد من معاني النقد الأدبي .

و وضع نظرية تجمع بين اللفظ والمعنى حين قال : لو أن" المعاني تكون تبعـًا للألفاظ في ترتيبها، لكان محالاً أن تتغير المعاني ، و الألفاظ بحالها لم تزل على ترتيبها ، فلما رأينا المعاني قد جاز فيها التغير من غير أن تتغير الألفاظ و تزول عن أماكنهـا ، علمنا أن الألفاظ هي التابعة و المعاني هي المتبوعة " .

وأنكر أن " تتفاضل الكلمتان المفردتان من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم , بأكثر من أن تكون هذه مألوفة مستعملة وتلك غريبة وحشية أو أن تكون حروف هذه أخف وامتزاجها أحسن و مما يكد اللسان أبعد وهل تجد أحدا يقول : هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملائمة معناها لمعنى جاراتها وفضل مؤانستها لأخواتها" .

فلم يكن اللفظ عنده محدودا في قيمته الصوتية , ولا المعنى مقتصرا على الفكرة و المضامين الأخلاقية و الفلسفية , فاللفظ عنده بكل إمكاناته صوتية وغير الصوتية في خدمة المعنى , والمعنى هو كل ما ينتج عن السياق من فكر و إحساس وصورة وصوت .


=blue]
[b][/color]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
المنصوري
مراقبة عامة ومديرة الإشراف
مراقبة عامة ومديرة الإشراف
المنصوري


عدد المساهمات : 596
نقاط : 1243
تاريخ التسجيل : 29/10/2010

مستويات النظم عند الجرجاني Empty
مُساهمةموضوع: رد: مستويات النظم عند الجرجاني   مستويات النظم عند الجرجاني Icon_minitimeالأحد فبراير 06, 2011 12:39 pm

[color:73b0=blue
ردود الجرجاني على من انتصر للفظ أو المعنى :


أخذ عبد القاهر على عاتقه الرد بالحجج والبراهين على من فصل اللفظ عن المعنى . فأثبت لمن نصر اللفظ وقدمه على المعنى بأن" الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة ولا من حيث هي كلم مفردة . وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ . ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر كلفظ الأخدع في بيت الحماسة [ من الطويل ] :
تلفتُّ نحو الحيِّ حتى وجدتني وجعتُ من الإصغاء ليتا وأخدعا
وبيت البحتري [ الطويل ] :
وإني وإن بلغتني شرف الغنى وأعتقت من رق المطامع أخدعـي
فإن لها في هذين المكانين ما لا يخفى من الحسن . ثم إنك تتأملها في بيت أبي تمام [ من المنسرح ]:
يا دهر قوم من أخدعيك فقد أضججت هذا الأنام من خرقك
فتجد لها من الثقل على النفس ومن التنغيص والتكدير أضعاف ما وجدت هناك من الروح والخفة والإيناس والبهجة".

ويرد على الجاحظ الذي جعل الكلام في طبقات , و على كل من زعم أن الفصاحة تكون في التلاؤم اللفظي فيقول : "أنا إنْ قصرنا صفة الفصاحة على كون اللفظ كذلك وجعلناه المراد بها لزمنا أن نخرج الفصاحة من حيز البلاغة ومن أن تكون نظيرة لها ." فـ"هل تجد أحدًا يقول :هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملائمة معناها لمعنى جاراتها وفضل مؤانستها لأخواتها وهل قالوا : لفظة متمكنة ومقبولة وفي خلافه : قلقة ونابية ومستكرهة إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناهما وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم . وأن الأولى لم تلق بالثانية في معناها وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفقا للتالية في مؤداها".

فالحاصل هو " أن الفصاحة والبلاغة وسائر ما يجري في طريقهما أوصاف راجعة إلى المعاني وإلى ما يدل عليه بالألفاظ دون الألفاظ أنفسها لأنه إذا لم يكن في القسمة إلا المعاني والألفاظ وكان لا يعقل تعارض في الألفاظ المجردة إلا ما ذكرت لم يبق إلا أن تكون المعارضة معارضة من جهة ترجع إلى معاني الكلام المعقولة دون ألفاظه المسموعة ولا يغرنك قول الناس : قد أتى بالمعنى بعينه وأخذ معنى كلامه فأداه على وجهه فإنه تسامح منهم . والمراد أنه أدى الغرض" .

ويذكر عبد القاهر خطأ الناس في فهم كلام المتقدمين , ذلك أنهم حين رأوا القدمى يفردون اللفظ عن المعنى , " ورأوهم قد قسموا الشعرفقالوا : إن منه ما حسن لفظه ومعناه ومنه ما حسن لفظه دون معناه ومنه ما حسن معناه دون لفظه .

ورأوهم يصفون اللفظ بأوصاف لا يصفون بها المعنى , ظنوا أن للفظ من حيث هو لفظ حُسنـًا ومزية ونبلاً وشرفـًا وأن الأوصاف التي نحلوه إياها هي أوصافه على الصحة . وذهبوا عما قدمنا شرحه من أن لهم في ذلك رأيا وتدبيرا وهو أن يفصلوا بين المعنى الذي هو الغرض وبين الصورة التي يخرج فيها فنسبوا ما كان من الحسن والمزية في صورة المعنى إلى اللفظ".

ورد شبهتهم في أن المعاني لا تتزايد وأن الذي يتزايد هو الألفاظ فيقول :" وهذا كلام إذا تأملته لم تجد له معنى يصح عليه غير أن تجعل تزايد الألفاظ عبارة عن المزايا التي تحدث من توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم لأن التزايد في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ونطق لسان محال "
ورد شبهة من نصر المعنى و أهمل اللفظ فيقول : "اعلم أن الداء الدوي والذي أعيا أمره في هذا الباب غلط من قَدَّمَ الشعرَ بمعناه وأقلَّ الاحتفال باللفظِ , وجعلَ لا يعطيه من المزية إن هو أعطى إلا ما فَضَلَ عن المعنى . يقول ما في اللفظ لولا المعنى وهل الكلام إلا بمعناه فأنت تراه لا يقدم شعرًا حتى يكون قد أُودِع حكمةً أو أدبـًا واشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر" ولست بناظرٍ " في كتابٍ صُنّف في شأن البلاغة وكلام جاء عن القدماء إلا وجدته يدل على فساد هذا المذهب . ورأيتهم يتشددون في إنكاره وعيبه والعيب به . وإذا نظرت في كتب الجاحظ وجدته يبلغ في ذلك كل مبلغ ويتشدد غاية التشدد".
]
[b]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
المنصوري
مراقبة عامة ومديرة الإشراف
مراقبة عامة ومديرة الإشراف
المنصوري


عدد المساهمات : 596
نقاط : 1243
تاريخ التسجيل : 29/10/2010

مستويات النظم عند الجرجاني Empty
مُساهمةموضوع: رد: مستويات النظم عند الجرجاني   مستويات النظم عند الجرجاني Icon_minitimeالأحد فبراير 06, 2011 12:41 pm

[color=blue]
صور من تحليلات عبد القاهر الجرجاني على ضوء نظرية النظم :

لقد كان عبد القاهر في حديثه يستشهد بالآي القرآني و بالشعر ليثبت أفكاره و آرائه . ثم يقوم بتحلل الشواهد وفق نظرياته التي يريد أن يثبتها للقارئ . و في معرض حديثنا اذكر تحليلات عبد القاهر لنصين أحدهما من القرآن و الآخر من الشعر على ضوء نظريته في النظم .

الصورة الأولى :

في قوله تعالى : ( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين )

يقول عبد القاهر : "فتجلى لك منها الإعجاز وبهرك الذي ترى وتسمع ! أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة القاهرة إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض وأن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة وهكذا, إلى أن تستقرِيَها إلى آخرها وأن الفضل تَنَاتَجَ ما بينها وحصل من مجموعها".فيؤكد لنا أن فصاحة اللفظة لا تظهر إلا باعتبار مكانها من النظم و حسن ملائمة اللفظة لجارتها . "ثم يضع لنا ميزانـًا نقديـًا حكيمـًا لإثبات هذه الدعامة , و أثرها في نظرية النظم , وهو ما يمكن أن العزل النقدي الفني , بحيث تعزل الكلمة عن أخواتها في التركيب فنحس ونشعر بفقدانها لحسنها ورونقها" , يقول :"إن شككتَ فتأمل هل ترى لفظة منها بحيث لو أُخذتْ من بين أخواتها , وأُفردتْ لأدَّتْ من الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها من الآية
1- قل : " ابلعي " واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها وكذلك فاعتبر سائر ما يليها .
2- ومعلوم أن مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض ثم أمرت ثم في أن كان النداء ب " يا " دون " أي " نحو : يا أيتها الأرض .
3- إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال : ابلعي الماء .
4- أن أتبع نداء الأرض وأمرها بما هو من شأنها ونداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها .
5- و قيل : وغيض الماء . فجاء الفعل على صيغة " فُعِلَ " الدالة على أنه لم يغض إلا بأمر آمر وقدرة قادر .

6- تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى : ( قُضِيَ الأمرُ ) .
7- ذكر ما هو فائدة هذه الأمور وهو ( استوت على الجودي ) .
8- إضمار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة والدلالة على عظم الشأن .
9- مقابلة " قيل " في الخاتمة ب " قيل " في الفاتحة .
أفترى لشيء من هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعة وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها تعلقا باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتوالى في النطق أم كل ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب فقد اتضح إذا اتضاحا لا يدع للشك مجالا أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة ولا من حيث هي كلم مفردة . وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها ".
[b][/color]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الرقبي رضوان
عضو جديد
الرقبي رضوان


عدد المساهمات : 26
نقاط : 68
تاريخ التسجيل : 30/01/2011

مستويات النظم عند الجرجاني Empty
مُساهمةموضوع: مراتب النظم عند الجرجاني   مستويات النظم عند الجرجاني Icon_minitimeالثلاثاء فبراير 08, 2011 1:21 pm

- مراتب النظم عند الجرجاني:
كان من الطبيعي أن يتحدث الجرجاني عن مراتب النظم، وأن يميز بينها على أساس تبيان أوجه الإعجاز في الخطاب القرآني، وتبيان عناصر الشعرية أو الأدبية في الخطاب البشري، وتبعا لهذا الأمر يمكن أن نميز بين مراتب ثلاث للنظم عند عبد القاهر، يمكن حصرها في المستويات التالية:
ـ المستوى العادي
ـ مستوى الشعرية أو الأدبية
ـ مستوى الإعجاز
1 ـ المستوى العادي للنظم:
يصفه الجرجاني بأنه الكلام العادي المؤلف بطريقة لا تراعي إلا صحة الإعراب، قائلا:" واعلم أن من الكلام ما أنت تعلم إذا تدبرته أن لم يحتج واضعه إلى فكر وروية حتى انتظم، بل ترى سبيله في ضم بعضه إلى بعض، سبيل من عمد إلى لآل فخرطها في سلك لا يبغي أكثر من أن يمنعها التفرق، وكمن نضد أشياء بعضها على بعض، لا يريد في نضده ذلك أن تجئ له منه هيئة أو صورة، بل ليس إلا أن تكون مجموعة في رأي العين، وذلك إذا كان معناك معنى لا تحتاج أن تصنع فيه شيئا غير آت تعطف لفظا على مثله" .
فالمستوى العادي من النظم عند الجرجاني هو الذي يتوخى صاحبه عطف كلم، بدون أن يتوخى معاني النحو، ودون أن يسمو بخطابه إلى مستوى الأدبية، أي انه لا يبحث في أن نظمه مؤسس على قواعد جمالية، تجعل المتلقي لهذا الخطاب يعمل فكره من اجل استخراج دلالاته، بل هو خطاب مباشر؛ الغرض منه إفهام المتلقي دون إحداث تفاعل تأويلي بينهما.
وقد مثل الجرجاني لهذا الصنف من النظم، بعدد من الأمثلة مثل قول بعض البلغاء في وصف اللسان" اللسان أداة يظهر بها حسن البيان، وظاهر يخبر عن الضمير وشاهد ينبئك عن غائب، وحاكم يفصل به الخطاب، وواعظ ينهى عن القبيح، ومزين يدعو إلى الحسن وزارع يحرث المودة، وحاصد يحصد الضغينة، ومُلهٍ يُونِقُ الأسماع " .
يعلق الجرجاني على الأمثلة التي أوردها، والتي لم يتوخ أصحابها إلا عطف بعض الكلم على بعض قائلا:" فما كان من هذا وشبيهه لم يجب به فضل إذا وجب، إلا بمعناه أو بمتون ألفاظه دون نظمه وتأليفه، وذلك لأنه لا فضيلة حتى ترى في الأمر مصنعا، وحتى تجد إلى التخير سبيلا، وحتى تكون قد استدركت صوابا" .
وهو بهذا يحدد المميزات التي تجعل من النظم يرتقي إلى مستوى أفضل من هذا المستوى العادي، وهي:
ـ أن ترى في الأمر مصنعا
ـ أن تجد إلى التخير سبيلا
ـ أن تكون قد استدركت صوابا
وهكذا فهذا المستوى من النظم الذي يراعى فيه فقط الصحة والالتزام بالإعراب، لا يرى فيه الجرجاني قيمة شعرية أو أدبية، لأنه علم مشترك بين جميع العارفين باللغة، لأن المزية التي فيه ترجع إلى " لفظه دون نظمه، لأنه لا يعدو ضم جمل عطف بعضها على بعض، من غير أن يقصد فيها إلى أن تؤلف هذه الجمل صورة معجبة، أو تبرز هيئة مثيرة " .
وعلى هذا الأساس فهذا المستوى العادي من النظم عند الجرجاني، مرتبط بالإخبار المباشر الذي لا يحتاج فيه المتلقي إلى تدبر ولا إلى إعمال الفكر، كما لا يحتاج فيه ناظمه إلا أن يكون عارفا باللغة متقنا لإعرابها، حتى يؤلف بين عناصر الكلم.
2 ـ مستوى الشعرية أو الأدبية:
أورد عبد القاهر هذا النوع من النظم تحث عنوان" فصل في النظم يتحد في الوضع ويدق فيه الصنع" . يقول في مطلعه:" اعلم أن مما هو أصل في أن يدق النظر ويغمض المسلك، في توخي المعاني التي عرفت، أن تتحد أجزاء الكلام ويدخل بعضها في بعض ويشتد ارتباط ثان منها بأول، وان تحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النفس وضعا واحدا، وان يكون حالك فيه حال البياني يضع بيمينه هاهنا في حال ما يضع بيساره هناك، وفي حال ما يبصر مكان ثالث ورابع يضعهما بعد الأولين، وليس لما شانه أن يجيء على هذا الوصف حد يحصره وقانون يحيط به" .
وإذا كان الجرجاني قد أكد على أن النظم هو توخي معاني النحو، فانه في هذا المستوى العالي لم يكتف بهذه المعاني النحوية، بل ربطها بالمقامات والمواضع التي تحدد هذه المعاني النحوية، ذلك أن المقاصد والمقامات هي التي تكسب هذه المعاني جمالية ورونقا، بالإضافة إلى أنها تمنح الخطاب تناسبا واتساقا، مما يجعله بنية موحدة، لان الأمر كله في خطاب الجرجاني دائر على تناسب الكلام مع بعضه البعض وشدة ارتباطه به، حتى تشعر النفس عند تلاؤمه بالارتياح، وتجد قبولا له، ولن يكون ذلك إلا إذا راعى مؤلف الكلام وهو يضع هذه اللفظة مع الألفاظ التي قبلها والأخرى مع التي بعدها، وان ينعم نظره في كل ذلك مراعيا المقامات والأوضاع أيضا، وثمة ميزة أخرى لهذا المستوى من النظم وهو كونه مما لا يلين قياده بيسر، ولا يتوصل إلى مكمن الجمال فيه بسهولة فيحتاج بذلك إلى رشح الجبين وكد الذهن والتأمل، لأنه باب يدق فيه النظر، ويغمض المسلك في توخي المعاني على حد تعبير الجرجاني.
ولذلك فهو يقرر أن هذا النمط من الكلام هو النمط العالي، قائلا:" وإذا قد عرفت هذا النمط من الكلام وهو ما تتحدد أجزاؤه حتى يوضع وضعا واحدا، فاعلم انه النمط العالي والباب الأعظم، والذي لا ترى سلطان المزية يعظم في شيء كعظمه فيه" .
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن النظم أو المعاني التي تقوم عليها الشعرية، تتسم بالدينامية والفاعلية، مما يصعب معها حصرها أو الإحاطة بها، وذلك لأنه تجيء على وجوه شتى وأنحاء مختلفة، ليست لها غاية تقف عندها ونهاية لا نجد لها ازديادا بعدها .
وعلى هذا الأساس" فهذا النوع من النظم يحتاج قارئا متميزا، يستطيع كشف المسالك الغامضة وشق الصدفة، بل الغوص في الأعماق للوصول إلى مكامنها الأولى، وان عملية الكشف هذه تتطلب مكابدة ومعاناة، ومشقة شديدة، لان هذا النص حسب الجرجاني لا يمكن نفسه لصاحبه بسهولة ويسر" .
وبذلك يكون الكشف عن معاني النظم في الخطاب، هو كشف عن معاني الشعرية أو الأدبية، أي ما يجعل من الأدب أدبا، وهذه المكونات التي يحلى بها الخطاب مرتبطة بمجموع المعاني النحوية؛ المرتبطة بدورها بالأوضاع والمقامات والمقاصد، والتي تؤلف في النهاية بنية موحدة الأجزاء متناسبة الدلالة، ولذلك فالمحلل لهذا النوع من النظم يشعر بالمكابدة والمشقة في استخراج المعاني الثاوية في بنية هذا المستوى، وفي الإمساك بالخيط الناظم لهذه المعاني، هذه المعاناة هي التي تخلق لذة القراءة بتعبير بارت، لان القارئ المتذوق المترس في هذه اللحظة يكون في تفاعل تام مع النص، وبالتالي يصبح منتجا لنص ثان مشبع بتحليلات جمالية ذوقية، يبرز في معالمها معاني الشعرية.
3 ـ مستوى الإعجاز:
هذا المستوى من النظم يفوق جميع المستويات النظمية البشرية، ولعل هذا ما حدا بالجرجاني إلى أن يؤلف دلائل الإعجاز، إذ كان الدافع الديني وإبراز أوجه الإعجاز القرآني قويا في فكرة النظم عند الرجل، ولذلك نراه قد استعرض أراء سابقيه في الإعجاز فرأى أن ما اعتمدوه منها لا يدل على إعجاز القران، ومن ثم نفى أن يكون الإعجاز في الأخبار عن الغيوب أو في الصرفة أو في الألفاظ أو المعاني أو في الاستعارات.... وفند أراء القائلين بها بطريقة فنية منطقية، ليصل إلى القول بان إعجاز القران في نظمه قائلا:" فإذا بطل أن يكون الوصف الذي أعجزهم في القران في شيء مما عددناه، لم يبق إلا أن يكون في النظم" .
وهذا المستوى من النظم لا يمكن لأحد أن يصل إلى مرتبته، لأنه وجه من أوجه الإعجاز التي تحدي به العرب الفصحاء البلغاء، يقول تعالى ( قُلْ لانْ اجْتَمَعتِ الإنْسُ وَالجِنُ عَلى أنْ يَأتُوا بِمِثلِ هَذا القُرانِ لاَ يَأتُونَ بِمِثْلِه وَلَو كَانَ بَعضُهُم لِبَعْضٍ ظَهِيرا). بل إن القران تحداهم بان يأتوا بعشر سور أو بسورة واحدة من مثله، لكنهم لم يقدروا على ذلك، لان حسن النظم والتأليف القرآني ابهرهم وأبان عن عجزهم.
هذه هي أهم مراتب النظم عند الجرجاني، والتي تدرج فيها من العادي إلى العالي إلى الاعجازي الذي هو محور نظريته، وبذلك أصبح النظم عند الجرجاني نظرية علمية لها أصولها، هذه النظرية التي خرجت من دائرة الإعجاز إلى دائرة اكبر وأوسع، يمكن أن يُرجع إليها، ويقاس بها الحسن في كل الأساليب والتراكيب،، باعتبارها أهم المقاييس في النقد الأدبي.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
tatamoun
عضو جد فعال
عضو جد فعال
tatamoun


عدد المساهمات : 676
نقاط : 1072
تاريخ التسجيل : 18/10/2010

مستويات النظم عند الجرجاني Empty
مُساهمةموضوع: رد: مستويات النظم عند الجرجاني   مستويات النظم عند الجرجاني Icon_minitimeالسبت يوليو 23, 2011 12:26 pm

مستويات النظم عند الجرجاني 69
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
مستويات النظم عند الجرجاني
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» مراتب النظم عند الجرجاني

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
واحة التواصل والإبداع :: الفئة الأولى :: واحة التربية والتعليم والتواصل :: منتدى الدراسات الأدبية والنقدية-
انتقل الى: