القابض على الجمر
الدموع تنسكب من مقلتيه كالسيول.. تخط أغوار اليأس والحرمان على خذيه.. آه.. إن أوراق العمر بدأت تذبل شيئا فشيئا.. تتساقط من أعالي الشجر الحزين، مبللة بالدمع.. لترسم تجاعيد الشيخوخة الموشومة بذكريات الصبا على وجهه الصغير.
اتكأ على عصاه واتجه بحثا عن ظل يظلله من أشعة الشمس المحرقة.. العرق يتصبب من جبينه، وجسمه النحيل يرتعد خوفا من الوحدة والغربة .. حاول السير، لكنه لم يستطع، فرجلاه الرقيقتان المتعبتان، لا تقويان على حمله. جلس إلى الأرض واخذ يحبو نحو ظل شجيرة كانت قريبة منه.. ألقى بجسمه المتعب تحت ظلها وراح بخياله بعيدا... عله يخفف من الألم الذي يعاني منه... ألم الوحدة والغربة والتشرد... ألم الظلم الذي يكتوي بنيرانه الملتهبة كل يوم.
الجو صحو، وزقزقة العصافير يمتزج غريدها بخرير المياه الجارية.. وضع رجليه في جدول صغير، وأخذ يضرب بهما في مياهه العذبة.. وسار على إيقاعات الزقزقة ينشد أناشيد الحرية والعدل والكرامة، كثيرا ما كان يسمع عن هذه الشعارات الفضفاضة المرصوصة تحث عناوين كبيرة في الكتب والجرائد والمجلات.. لكنه في الواقع لا يرى إلا عكسها تماما.. فلا حرية ولا عدل ولا كرامة.. كان ينشد عن حريته المسلوبة منه وهو لازال صغيرا عندما أُخذ من أبويه وهو لا يتجاوز بعد خمس سنوات، أخذ هو و بعض أطفال القرية ليعملوا عند السيد في مزارعه لمدة سبع سنوات متوالية دون مقابل، لتحل مكانهم مجموعة ثانية، وهكذا دواليك.. لمدة تزيد عن عشرين سنة... كان السيد يأخذ قسرا من كل بيت طفلا أو شابا ليعمل في مزارعه التي كانت في يوم من الأيام أرضا له ولأجداده؛ أرضه التي سلبها من أبيه[/justify] السيد إما ببيع مكره أو بدون بيع.
-هل أنت رضى؟
سؤال قطع عليه تفكيره وخياله.. دار نحو الصوت بسرعة كبيرة كالبرق ..وقام من مقامه مرتجفا وسلم على صاحب الصوت قائلا:
-نعم.. أنا رضى.. ما الأمر؟
-أجابه الرجل وقد أمر أصحابه بإمساكه: السيد يريدك..
نظر رضى إلى الذين أمسكوه بغلظة شديدة حتى أحس بعروق ذراعيه لم تعد فيها قطرة دم واحدة، ثم قال للرجل متمتما:
- ألا تعرف فيما يريدني السيد؟
لم يبال الرجل بسؤاله، أمر أصحابه أن يأخذوه ويزجوا به في حجرة حتى الصباح لكي ينظر السيد في أمره غدا... وجد نفسه في حجرة صغيرة مظلمة.. جلس القرفصاء على حصيرة مبللة كانت بداخلها، وجسمه يرتعد.. انقبض قلبه وأغمض عينيه .. شعر بنفسه كأنه يسير فوق حبل مشدودة بين طرفي حفرة عميقة مظلمة.. وهو يمسك بجمرة تحرق يديه.. حاول التخلص منها.. أن يرميها بعيدا لكنها ظلت لصيقة به كأنما خلقت معه.. حاول إطفاءها.. لكنه كلما نفخ فيها هواءه المتقطع بالعطاس، ازدادت شرارتها وحمرتها... أيقن رضى أن عليه العبور فوق الحبل بهذه الجمرة... كأن هناك في الضفة الأخرى من ينتظره لأخذها منه... جمع قواه وتمتم مع نفسه: لا بد لي أن أعبر هذه الحفرة...؟ وهو يسير ببطء على الحبل.. تملى بنظراته الحفرة فأحس بالدوار..رفع رأسه إلى السماء وسار في اتجاه الضفة الأخرى، لم يبق له على الوصول إلا مترا واحدا.. حبس أنفاسه على بحة صوت يناديه... ورجل تركله... هيا استفق السيد يطلبك الآن؟
- تفضل.. اجلس..، بادره السيد بالترحيب، كأنما يريد أن يكافئه عن جميل صنعه له... لكن رضى الذي تعود نبرة السيد القاسية المفعمة بعبارات السخط والازدراء وهو يخاطب خدمه و رعيته، أدرك أن الابتسامة المصطنعة تخفي وراءها أشياء كثيرة...جلس رضى على أريكة وتفكيره لم يتوقف لحظة واحدة...راودته أسئلة كثيرة...حاول إيقافها موجها سؤاله إلى السيد قائلا:
- أنا لم اعرف سبب مجيئي إلى هنا بهذه الطريقة؟
لم يبال السيد بسؤاله... سمعت أنك تكتب الشعر، وأنك تهجو الأنظمة ومن تسميهم بالطغاة..فهل أنا منهم؟
- أنت أدرى بنفسك سيدي... جواب ملغم من رضى حاول به التناور... الآن فهم جيدا سبب مجيئه إلى هنا...ذات يوم كتب قصيدة يتحدث فيها عن الجبر والاستعباد...فهو كان يؤمن بان الأدب يجب أن يكون أداة لتحرير الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد لا لتخديرهم.
- أنت تناور ولا تريد مصارحتي، فمن عادة الأدباء اللف والدوران... أدرك رضى أن عليه أن يواجه الأمر بكل حزم وصبر... فهو الذي كان يقف أمام الجماهير ويهتف صادحا بالحق.لا يضره لومة لائم.
- إن شئت الحق فأنت من الظلمة الذين استعبدوا العباد، ونهبوا البلاد... فمتى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا...كلمات قالها رضى وهو يشعر انه لن يرى النور مرة أخرى... ما هذه الجرأة التي تحدث بها...ألم يكن حريا به أن يؤلف كلاما آخر على سبيل المجاز والثورية ليهرب من المواجهة؟
- كيف لك أن تكون كارها لي إلى هذا الحد، بينما أنا أحاول أن اتفق معك...
- كنت أتوقع منك أكثر مما أتوقع من أي شخص آخر.. لذلك اشعر باني مخيب لأمالك....
تملى السيد بنظرات ثاقبة رضى وأدرك أنه لن يرضخ لأوامره كما يفعل الباقون....كأنه من طينة أخرى لم يألفها...حار في أمره...جال في الحجرة والسيجارة لا تفارقه.. توقف عند الباب وحرك يده مشيرا إلى خدمه، ثم انصرف.
- لا تستطيعون سجن أفكاري، فما أؤمن به سيخرج لا محالة عبر هذه الجدران... صرخ رضى بأعلى صوته كأنه يريد أن يسمع الكون كله ما يقتنع به....
- هم خائفون جدا منا يا صديقي، لذلك حبسونا.. إنهم خجلون كأرملة مع ملاعقها الفضية.. لقد أرعبناهم حتى فقدوا صوابهم... صوت قطع على رضى صراخه.... اقترب منه ببطء تملى فيه جيدا... فهو عجوز يجلس على حصير قد ارتسمت زخارفها على سيقانه العاريتين.
- عمي ماذا تفعل هنا... هل زج بك أنت أيضا في هذا القبو...ألم يراعوا ضعفك وسنك...؟
- يا بني إن السيد لا يميز بين صغير ولا كبير، ولا بين قوي ولا ضعيف... توقف رضى عن أسئلته وأخذ يمعن النظر في الرجل العجوز... وصورته تجول في خاطره...كأنه يعرفه...بدأ يرسم اسمه في الغبار على أرضية الزنزانة ويمحوه ليعيد كتابته من جديد...
- هل تتعلم كتابة الاسم؟
- تعلمت..
يضحك العجوز ثم يخاطب رضى قائلا: كتابة الاسم يمكن أن تقود إلى كتابة جمل، والشيء التالي ستقوم بكتابة الفقرات..ومن ثم كتابة الكتب..وعندها سوف تتورط في مشاكل مثلي أنا.
قال رضى باندهاش: لو عاشت أمي لتراني أجلس في زنزانة مع رجل مثقف.. كاتب كبير.. آه..كم ستكون سعيدة وفخورة بي...وأخذ يحضن هذا العجوز ويقبل يديه...احتضنه العجوز وبدأ يحدثه عن مساره الثقافي وكيف قاده أدبه إلى هذا القبو، وكأن الأدباء ما خلقوا إلا ليعذبوا بآدابهم... تعالت أصوات العطاس والأنين من الشيخ العجوز... كأنه في لحظاته الأخيرة..أمسك بيد رضى وتمتم بصوت تقطعه عطساته المبحوحة، أن تكتب يا بني... يعني أن توجد...لا يصنع العظماء إلا الأدب العظيم...أدرك رضى أنها وصايا من العجوز يجب أن تُحفظ.... جال بيديه في غبار الحجرة باحثا عن ورقة وقلم يكتب بها هذه النفائس...سقط القلم من يديه والدموع تنهمر من مقلتيه حتى بللة الورقة...إنا لله وإنا إليه راجعون.
أخذ أحمد القلم الذي سقط على الأرض وخاطب رضى باندهاش: ما الأمر يا صديقي؟ لقد حان دورك لإلقاء بعض من قصائدك؟
تمعن رضى جيدا في قصائده بحثا عن القصيدة التي سيشارك بها في هذا الملتقى الأدبي... صعد المنصة وصورة العجوز ووصاياه تراوده قائلا:
(......)
قصيدتي جمرة..
قصيدتي سفر معلق على مشانق الصباح.
أحرفها تعوي بالصياح....
لا تهادن.
"وإن ناشدتك القبيلة"..
وان مزقتني الظنون.
وإن بقر الفقر أحشاءك..
واستلقت على الردى قامة السنابل..
وانحنت على الجمر جباه العاشقين..
لا تهادن
"حتى لو منحوك الذهب..
والمنصب".
لا تهادن.
ودع النسور تزهو في اشتهاء..
ترقص على جراح الأخلاء..
وافتح نوافذ قلبك المجبول بالأحزان
وارم عنك الحجر..
فهنا تولد الذكريات..
مصلوبة على ظهر القمر.
وسط الجمهور الذي أخذ يصفق بحرارة على هذه القصيدة ... ُدهش رضى برؤية شيخ عجوز يمسك أوراقا متجها نحوه... تسمر في مكانه ولم يقو على الحركة... قدم له الشيخ ورقة وانصرف...قراءها رضى بإمعان وتمتم: لقد أحسنت بني...فالقصيد جمرة أول ما تحرق صاحبها...
رضوان الرقبي - المغرب
ورزازات في: 15/02/2011