بعض ملامح التلقي في النقد العربي القديم
كان اهتمام النقاد العرب القدامى بموضوع التلقي مرتبطا في جملة أحكامهم بقضايا النص، ولهذا جاء مبثوثا في تضاعيف الأحكام، متعدد المفاهيم بتعدد الملكات، أو باختلاف العوامل المؤثرة في تاريخ الأدب وتقدير النقاد، ومع تعدد المفاهيم واختلاف الرؤى في تلقي النص، كان البحث عن المتعة الفنية من أبرز منافذ التواصل مع المتلقي، ومن أهم قنوات البث المباشر لدى نقادنا مع اختلاف مستوياتهم وقدراتهم في استلهام عرائس الجمال في النص.
ويمكن أن نلمس فلسفة التلقي عند العرب ، من خلال قاعدة بلاغية معروفة، وهي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وبوحي من هذه القاعدة توطدت علاقة النص بخبرة المتلقي وذوقه الجمالي
والنقد العربي بكل مصادره المعرفية ووسائله المتعددة في التعامل مع ضروب الكلام، كان أكثر التزاما بطبيعة ونوعية العلاقة بين النص وأحوال المتلقي، فلا يلقي إليه الخبر مؤكدا إن كان خالي الذهن، ولا خاليا من التأكيد إن كان مفكرا لما يسمع، وعلى قدر موقفه الإنكاري تكون درجة التأكيد وقوته بالوسائل المستخدمة في الأسلوب العربي.
ولذلك اهتم الفكر البلاغي عند العرب بمنازل المخاطبين وأقدراهم الاجتماعية في النص الخطابي، فالخطيب "لا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة، ولا الملوك بكلام السوقة، ويكون في قواه فضل التصرف في كل طبقة... ومدار الأمر على إفهام كل أمر بمقدار طاقته، والحمل عليهم على أقدار منازلهم" .
وربما اهتموا كذلك بالأحوال النفسية للمتلقي، وما يكون لها من وطأة فعالة في إصدار الأحكام على النص، وهذا واضح فيما يحكيه الجاحظ عن سهل بن هارون إذ يقول: "إذا كان الخليفة بليغا والسيد خطيبا، فإنك تجد جمهور الناس أكثر الخاصة فيهما على أمرين: إما رجل يعطي كلامهما من التعظيم والتفضيل والإكبار والتبجيل، على قدر حالهما في نفسه، وموقعهما من قلبه، وإما رجلا تعرض له التهمة لنفسه فيهما، والخوف من أن يكون تعظيمه لهما يوهمه من صواب قولهما، وبلاغة كلامهما، ما ليس عندهما حتى يفرط في الإشفاق ويسرف في التهمة. فالأول يزيد في حقه للذي له في نفسه، والآخر ينقصه من حقه لتهمته لنفسه، ولإشفاقه من أن يكون مخدوعا في أمره، فإذا كان الحب يعمي عن المساوي، فالبغض أيضا يعمي عن المحاسن" .
فالموقف النفسي للمتلقي لا يقل أهمية وتأثيرا في مجال الحكم على النص عن الموقف الذي يصدر عنه الأديب شاعرا أو كاتبا أو خطيبا.
وفي تاريخنا النقدي شواهد كثيرة استقبل فيها النص بعوالق نفسية وحواجز مذهبية وحزبية، كانت حائلا ضبابيا بين المتلقي وموضوعية الحكم، وهذه المشكلة الناتجة عن هذا الضرب من التلقي لم تغب عن بال الرواد في حركتنا النقدية، وهم يضعون الضوابط والمعايير التي تحكم دراسة النص في موضوعية أقل تأثرا بهوى النفس، وأفق استجابة لدواعي الإسقاطات النفسية والحزبية التي تفصل المتلقي عن أسرار النص ومعطياته.
والجاحظ والجرجاني بهذا يلتقيان عند فكرة واحدة، وهي أن الفن الأدبي يستدعي من الأديب أن يكون بعيد المرمى، دقيق الفكر، ويستدعى من المتلقي أن يكون من ذوي الفكر الثاقب والنظرة الفاحصة معتمدا على الروية والاستنباط في فتح باب العلم بعد إدمان قرعه بابه، حسب الجاحظ، أو قادرا على أن يشق الأهداف لاستخراج الجواهر، حسب الجرجاني، فالمتعة الفنية والجمالية في عملية التلقي إنما تتحقق عند الناقدين بذلك الجهد المشترك بين صاحب النص والمتلقي، فصاحب النص هو من يودعه دقيق فكره وخلاصة سره كما تودع حبات اللؤلؤ قلب الأهداف، أو يودع العقد النظيم خزائن الأسرار، أما المتلقي، ناقدا أو دراسا، فهو الباحث عن مكنون الجمال او الادبية في النص متطلعا إلى أصدافه وخزائن سره، وتلك مهمة تقتضي الخبرة النادرة في الوصول إلى الأغوار البعيدة والسراديب المختفية، فالتعامل مع الأهداف النصية بحثا عن الجواهر يتطلب جهدا وحذرا، حسب الجرجاني.
فإذا كان الجاحظ يميل إلى أن إعراض المتلقي/الجمهور، أو إقباله على الموقف الممثل هو الفيصل في الحكم على المستقبل الفني لصاحب النص، فإن عبد القاهر الجرجاني، قد حرر المسألة بشكل فني دقيق، وأول ما يلفت النظر في رؤية عبد القاهر لجماليات التلقي، أنه ربط بين مهمة التلقي والدور المنوط بصاحب النص، فجعل الإبداع الفني وصفا مشتركا في التعامل معه نتاجا وتلقيا، ولذلك كان الوصول إلى المتعة الفنية والجمالية هو ثمرة الجهد المبذول والفكر الدقيق في الحالتين وهذا ما يبدو واضحا في قوله "وإن توقفت في حاجتك، أيها السامع للمعنى إلى الفكر في تحصيله فهل تشك في أن الشاعر الذي أداه إليك، ونشر بزه لديك قد تحمل فيه المشقة الشديدة وقطع إليه الشقة البعيدة، وانه لم يصل إلى درة حتى غاص، وانه لم ينل المطلوب حتى كابد منه الامتناع والاعتياص".
وبهذا يضع الجرجاني حدا لبعض الاتجاهات النقدية التي كان يقف فيها المتلقي موقف المتزمت من صاحب النص منكرا فضله وجهده في إبداعه الفني، وربما مال الهوى بالمتلقي أحيانا إلى أن يتخذ لنفسه مقياسا يعينه على تصيد المآخذ أو الحمل على شاعر بعينه، وهذا ما يرفضه عبد القاهر في إجراءات التعامل مع النص، بل ينكر هذا الضرب من الفكر النقدي، لأنه بعيد عن الموضوعية التي تقتضيها طبيعة الفن الأدبي، فنراه يطلب من المتلقي أن يقاوم سخائم النفس وهو يصدر أحكامه على التجارب الفنية، فيقول:" وإذا عثرت بالهوينا على كنز من الذهب لم تخرجك سهولة وجوده إلى أن تنسى جملة أنه الذي كد الطالب وحمل المتاعب".
وفي معرض حديث الجرجاني عن التشبيه المتوقف على دقة الفكر، يقف عند بعض النماذج التي تستدعي بديهة الخاطر وتوقد الذهن، وفيها يبدوالمتلقي مشدودا بفكره إلى صاحب التجربة متفاعلا مع ابداعه الفني وطاقاته الذهنية بشكل تتحول فيه الثنائية بينهما إلى مشاركة فكرية متآلفة، فقد أورد عبد القاهر حكاية عدي بن الرقاع وجرير محتجا في دقة الفكر وسرعة البديهة عند الشاعر، فيقول جرير " أنشدني عدي: عرف الديار توهما فاعتادها، فلما بلغ إلى قوله: تزجي أغن كأن إبرة روقه، رحمته، وقلت قد وقع ما عساه يقول وهو أعرابي جلف جاف؟ فلما قال: قلم أصاب من الدواة مدادها، استحالة الرحمة حسدا" .
وإذا كان جرير بحسه الشعري وتمرسه بفن الأسلوب العربي قد فطن إلى دقة التشبيه وصعوبة الموقف، فإن الرحمة والحسد كلاهما دليل على أنه التحم فكريا وشعوريا بصاحب التجربة، وتعايش معه تعايشا كاملا لا تكاد تلمح فيه أثرا للثنائية بينهما، ونعني بها الثنائية المتخاصمة التي كانت تظهر في مواقف التلقي بين صاحب النص والمتلقي.
وإذا صحت الرواية التي تذهب إلى أن جرير هو الذي أتم التشبيه قبل أن يسمعه من عدي، حتى قال له الفرزدق، وكان حاضرا إنشاد القصيدة: "ويحك لكأن سمعك في فؤاده مخبوء" . فعلى صحة هذه الرواية يكون التفاعل بين صاحب النص والمتلقي أتم وأكمل، فكلاهما مشارك في صنع المعنى بإبداعه الفني، وتكون عبارة الفرزدق تجسيدا وتفسيرا لطبيعة العلاقة التي تربط بين الطرفين في مواقف التلقي، وهو ما يسعى إليه عبد القاهر في فكره النقدي، وفي حديثه عن التجارب الشعرية نتاجا وتلقيا. حتى ليفهم من كلامه في التمثيل أو التشبيه انه ليس وصفا خاصا بصاحب النص، بل يراه ضرورة مهمة المتلقي، وقد يؤدي هذا التلاحم الفني إلى إبداع جديد يتسع له مجال النص.
وقد حفظ لنا التاريخ النقدي جملة من شواهد التلقي وأحكامه ، كانت لغة النص ومعطياته فيه معينا فياضا، تمتاح منه الدلاء على قدر مهارة المستقي وبعد المستقى، ونذكر على سبيل المثال أبيات كثيرعزة التي كانت مجالا لاستظهارات فنية متنوعة، ورؤى نقدية وجمالة متعددة ودلالاتها الفنية المتعددة بتعدد المفاهيم والأذواق: يقول كثير:
ولما قضينا من منى كـــل حاجـة ومسح بالأركان من هو ماســـــح.
وشدت على حرب المهارى رحــالنا ولا ينظر الغادي الذي هو رابــح.
أخذنا بأطراف الأحـاديث بينــنا وسالت بأعناق المضي الأباطــــح.
وقف ابن قتيبة عند ألفاظ النص معجبا بحسنها وحلاوتها في تنسيق المخارج والمقاطع الصوتية، ولكنه لم ير وراء هذه الألفاظ دلالة تذكر أو فائدة في المعنى، فيقول في تعقيبه على الأبيات"هذه الألفاظ كما ترى أحسن شيء مخارج ومطالع ومقاطع، وان نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته، ولما قطعنا أيام منى واستلمنا الأركان ومايلنا إبلنا الانطاء ومضى الناس لا ينتظر الغادي الرائح، ابتدأنا في الحديث، وسارت المطي في الأبطح وهذا الصنف في الشعر كثير." .
وعندما يتعامل المتلقي ناقدا أو قارئا متذوقا مع لغة النص ومعطياته من خلال مقياس محدد ارتضاه لنفسه، أو استجاب فيه لموقف نفسي أو خارجي، ففي هذه الحالة يصبح عطاء النص محدودا بحدود المقاييس المسيطرة على منافذ التواصل، والبث الفكري بينه وبين المتلقي، وكثيرا ما يترتب على هذه المعيارية جفاف النبع المتدفق في قراءة النص أو استقباله، حيث لا يجود النص بحلابه إلا بقدر ما يسمح هذا المعيار.
وابن قتيبة في رؤيته لأبيات كثير كان محكوما بالمعيارية التي التزم بها في قضية اللفظ والمعنى، فهو يسوي بينهما في الشعر على أساس أن بلاغة النص كما ترجع إلى الألفاظ فهي ترجع كذلك إلى المعاني، فخير أضرب الشعر عنده ما حسن لفظه وجاد معناه.
أما عبد القاهر الجرجاني فقد تواصل مع هذا النص، بخبرته الجمالية والفنية وأعانه الذوق البلاغي على النفوذ إلى أسراره وإيحاءاته المتعددة، ولم يعول الجرجاني في قراءة النص على جبرية المقياس الذي يلوي أعناق النصوص تبعا لهوى الناقد، أو خضوعا لنزعاته الفكرية، لكنه عرف كيف يستنبط العبارة، لتجود بأحسن ما فيها، وتفصح عن مكنون سرها، فتراه يقول" إن أول ما يتلقاك من محاسن هذا الشعر، أنه قال:" ولما قضينا من منى كل حاجة" فعبر عن قضاء المناسك بأجمعها والخروج من فروضها وسننها من طريق أمكنه أن يقصر معه اللفظ وهو طرب طريق العموم ثم نبه بقوله" ومسح بالأركان من هو ماسح" على طواف الوداع الذي هو آخر الأمر، ودليل المسير الذي هو مقصوده من الشعر، ثم قال: " أخذنا بأطراف الأحاديث بيتا" فوصل بذكر مسح الأركان ما وليه من زم الركاب وركوب الركبان، ثم دل بلفظه الأطراف على الصفة التي يختص بها الرفاق في السفر، من التصرف في فنون القول وشجون الحديث، أو ما هو عادة المتطرفين من الإشارة والتلويح والرمز والإيماء، وأنبأ بذلك عن طيب النفوس وقوة النشاط، وفضل الاغتباط، كما توجبه ألفة الأصحاب وأسة الأحباب، وكما يليق بحال من وفق لقضاء العبادة الشريفة، ورجا حسن الإياب، وتنسم روائح الأحبة والأوطان، واستماع التهاني والتحايا، من الخلان والإخوان، ثم زان ذلك كله باستعارة لطيفة طبق فيها مفصل التشبيه، وأفاد كثيرا من الفوائد بلطف الوحي والتنبيه... إذ جعل سلاسة سيرها بهم كالماء تسيل به الأباطح، وكان في ذلك ما يؤكد ما قبله، لأن الظهور إذا كانت وطيئة، وكان سيرها السير السهل السريع زاد ذلك في نشاط الركبان، ومع ازدياد النشاط يزداد الحديث طيبا ثم قال "بأعناق المطي"، ولم يقل بالمطي لأن السرعة والبطء يظهران غالبا في أعناقها" .
فمنهج عبد القاهر في التعامل مع النص، منهج متنوع قوامه التفسير والتحليل وحسن التحليل، وفيه جمع بين دراسة النفس والبيئة، من خلال الإشارات الدالة على المواقف النفسية التي يصدر عنها الشاعر في أبياته، أو من خلال دلالة التعبير على أثر البيئة في نفسه، فليس جل الهم عند صاحب النص أن يحدثنا عن الفراغ من أداء المناسك، أو إعداد المطايا لرحلة العودة إلى الديار وما يتبع ذلك من تبادل أطراف الأحاديث، على نحو ما فهم ابن قتيبة، فالأبيات بهذا الفهم لا تخرج عن كونها حكاية عن مألوف ممل، لم تتجاوز حدود الخبر إلى مجال الفن، وهذا فهم بعيد عن معطيات النسق التعبيري ودلالاته الموحية في الأبيات.
فالنص كما يرى الجرجاني يعلن عن دفقات شعورية متتابعة، تجيش في نفس الشاعر فرحا بالفراغ من أداء المناسك، فسرورا بالعود الحميد إلى الأصل والخلان، فالمألوف في تلك الحال أن تقفز إلى ذهن العائد صورة اللقاء البهيج، وتستدعي في النفس مشاعر الفرحة، وعندئذ يطيب حديث الركبان ويبدو إيقاع الرحلة سلسا، وخطى المطي أنغاما تهدهد الركبة، فتتلاشى وإعفاء السفر وكآبة المنظر، هذا هو ما تكشف عنه دلالة التعبير في النص كما رآها الجرجاني، وكما أوحت إليه بمصادر الحسن في الأبيات متمثلة في "استعارة وقعت موقعها وأصابت غرضها أو حسن ترتيب تكامل معه البيان، حتى وصل المعنى إلى القلب، مع وصول اللفظ إلى السمع واستقر في الفهم مع وقوع العبارة في الأذن" .
لقد تناول عبد القاهر الجرجاني في حديث مستفيض، إسهام المتلقي ودوره الفعال في عملية البحث عن أسرار النص، منبها إلى ضرورة أن يكون المتلقي ذا معرفة وخبرة في الوقوف على دفائن الصورة، بما احتوته من دقة المعنى ولطفه، فالمتلقي عنده يشبه الغواص الماهر، يكد ويتعب بل يبذل قصاراه في الحلول، باحثا عن الأصداف، قادرا على أن يشقها للوصول إلى الجوهر، وفي هذا يقول: "فإنك تعلم على كل حال أن هذا الضرب من المعاني كالجوهر في الصدف، لا يبرز لك إلا أن تشقه عنه، أو كالعزيز المحتجب لا يريك وجهه حتى تستأذن عليه، ثم ما كل فكر يهتدي إلى وجه الكشف عمل اشتمل عليه، ولا كل خاطر يؤذن له في الوصول إليه، فما كل أحد يفلح في شق الصدفة ويكون في ذلك من أهل المعرفة كما ليس كل من دنا من أبواب الملوك فتحت له..." .
فليست مهمة المتلقي – وهو يتحدث عن متلق ماهر- مقصورة على مجرد الاستحسان أو الاستهجان، بل هي مهمة البحث والتنقيب، وأعمال الفكر، وليس كل متلق يهتدي بفكره إلى وجه الكشف كما اشتملت عليه الصورة من معنى دقيق، بل يتطلب الأمر أن يكون المتلقي قادرا على إدراك العلاقات في مجال الصورة، وهو ما يقرره الجرجاني في موضع آخر بقوله: "فإن المعاني الشريفة اللطيفة لابد فيها من بناء ثان على أول، ورد تال على سابق، أفلست تحتاج في الوقوف على الغرض من قوله، كالبدر أفرط في العلو. إلى أن تعرف البيت الأول فتتصور حقيقة المراد منه، ووجه المجاز في كونه دانيا شاسعا، وترقم ذلك في قلبك، ثم تعود إلى ما يعرض البيت الثاني، عليك من حال البدر ثم تقابل إحدى الصورتين بالأخرى وترد البصر من هذه إلى تلك، وتنظر إليه كيف شرط في العلو الإفراط ليشاكل قوله شاسع... فهذا هو الذي أردت بالحاجة إلى الفكر، وبأن المعنى لا يحصل لك إلا بعد انبعاث منك في طلبه واجتهاد في نيله" .
" ولما كان مفهوم التلقي يحيل كأي مفهوم على دلالات مرجعية مختلفة مثل الدلالة اللسانية في عملية التواصل اللساني، بين الباث والمتلقي، والدلالة التربوية في عملية التلقين أو التدريس التي تقوم على الملقن والمتلقي، فإن الدلالة المرجعية التي تهمنا نحن في التلقي هنا هي مرجعية التواصل الأدبي الذي يقوم على مكونات هذا التواصل من مؤلف ونص وقارئ. والمتلقي هنا يحيل إلى القارئ، وما سيتفرع عنه من مفاهيم مختلفة بلورتها مفاهيم أخرى في نظرية القراءة في مجال التواصل الأدبي" .
وبتوجيه التلقي هذه الوجهة التواصلية في الحقل الأدبي ستتولد مفاهيم أخرى مميزة له أكثر ومحددة لمجال اشتغاله، من ذلك مفهوم جمالية التلقي، مفهوم نقد استجابة القارئ، وما تفرع عن ذلك من مفاهيم أخرى كثيرة، شكلت شبكة مفهومية واسعة. وتفرعت عنها مفاهيم كثيرة اهتمت بالخصوص بالقارئ والقراءة، والعلاقة بين النص والقارئ. ثم ظهرت تنظيرات كثيرة حول التلقي والقراءة من منظورات مختلفة خصصت مجال هذه الممارسة النظرية الأدبية.
يقرر أصحاب هذه النظرية في إجراءات التفاعل مع النص أن يشارك القارئ في المعنى، لا أن يقف عند مهمة التفسير التقليدي الذي يؤدي بدوره إلى الثنائية بينه وبين النص، إذ يصبح القارئ عنصرا خارجا عن النص، ولكنه بالمشاركة في صنع المعنى يتحول التركيز من موضوع النص إلى سلوك القراءة، فلا تكون مرجعية العمل الفني إلى الموضوع، ولا إلى ذاتية القارئ بل الالتحام بينهما .
فالقراءة بمعناها العام هي عملية تواصلية بين القارئ والنص بين الذات والموضوع، وبين مختلف الحضارات. وبصيغة أخرى فهي تفاعل بين طرفين يستفيد أحدهما من الآخر، أو إعادة بناء للعمل المقروء، ومن خلاله تتم أيضا إعادة بناء الماضي في الحاضر، وفي هذا السياق يصبح دور القارئ الفعال مركز اهتمام منظري التأويل الجدد وخصوصا منظري التلقي.
أن أحد الانشغالات الرئيسية لا يزر في كتابه "فعل القراءة" مثلا هي محاولة إيجاد المعنى من خلال التفاعل بين القارئ والنص، ويعتقد ايزر أن عملية القراءة عملية معقدة، وهي التي تعطي للنص معناه، لذا أصبح التركيز على حضور القارئ عنصرا ضروريا في كل عملية تأويلية، وبإعطاء القارئ دورا فعالا، فقد أصبحت القراءة نفسها عملية إبداعية وإيجابية، حيث يشارك القارئ المؤلف في مهمة الكتابة والإبداع، وفي ضوء هذه التطورات، لم يعد التأويل التقليدي الذي يفترض وجود معنى ثابت في النص شيئا مسلما به، لأن التفاعل بين القارئ والنص هو الذي يولد المعنى ، وهكذا فالتفسير الحرفي الذي يعتمد على وجود المعنى الثابت قد أصبح هو أيضا متجاوزا، ويؤكد ايزر أن المعنى الثابت في النص لا وجود له، بل المعنى هو ما يحققه القارئ خلال عملية القراءة.
وبينما يعتمد ايزر على عملية القراءة والتفاعل بين القارئ والنص، يركز ياوس اهتمامه على التلقي التاريخي، ورغم هذا الاختلاف، فإنهما يتفقان في كونهما يرفضان التأويل بصفته اكتشافا لمعنى موضوعي أو خفي في النص، يؤكد ايزر أن معاني النص ماهي إلا "نتيجة تفاعل جد صعب بين النص والقارئ، وليست صفات خفية في النص."
كما أنه يعتقد أن النصوص الأدبية لها معان متعددة لا ينتجها النص في حد ذاته، بل ينتجها تفاعل النص مع قرائه، ولذلك يجب أن يؤخذ خيال القارئ بعين الاعتبار، لأن القراءة ليست مجرد استهلاك أو تجاوب سلبي، ويكمن دور القارئ في تعامله مع ما يسميه ايزر باللاتحديدات الموجودة في النص، كما يعتمد تصور ايزر لجمالية التلقي على عنصر اللاتحديد باعتباره شرطا أساسيا للتفاعل بين القارئ والنص، وفي هذا السياق يقول ايزر "هناك في الواقع بنيتان أساسيتان للاتحديد في النص: البياضات والنفييات ، وهما شرطان جوهريان من أجل التواصل، لأنهما يثيران التفاعل بين النص والقارئ وتفاعل الضبط الذي حرص ايزر على تأكيده في نظريته هو ما يحض آراءه ومواقفه من منتقديه، ويمنع مفهومه التأويل من الانزلاق في الذاتية السطحية.